الزينية.. آخر قرية مصرية تتحدث باللغة القبطية في الحياة اليومية!

تحقيق: عبدالرحمن حسني

لأكثر من ثلاثة قرون بعد الفتح الإسلامي، صمدت اللغة القبطية، وهي النسخة الأحدث من اللغة المصرية القديمة، أمام الفتح العربي الإسلامي والهجرات العربية المتدفقة إلى أرض مصر. وحتى القرن التاسع الميلادي، كان الخليفة المأمون يصطحب معه مترجمًا إذا زار مصر، وبدأت اللغة القبطية تتراجع شيئًا فشيئًا لكي تفسح المجال للعربية، ورغم ذلك إلا إحدى القرى في صعيد مصر ظلت محافظة على بعض ملامح اللغة المصرية القديمة، حيث تتحدث بالعديد من المفردات والألفاظ الفرعونية حتى يومنا هذا وبالنطق الفرعوني القديم، وهي قرية الزينية، بمحافظة الأقصر.. فكيف حافظ أهالي هذه القرية على اللغة المصرية إلى الآن؟ وما دور الكنيسة القبطية في انتقال اللغة من جيل إلى جيل؟    

منذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي، ظهرت كتب تتحدث عن قواعد اللغة القبطية مكتوبة باللغة العربية بالإضافة إلى القواميس القبطية العربية، حتى الأسماء بدأت تأخذ طابعًا عربيًا في مصر، وبدأ اللسان المصري يعتاد على التحدث بالعربية، في حين احتفظت الكنائس القبطية بهذه اللغة ولاسيما في الترانيم والأناشيد الدينية، وهو ما حدث في الزينية، حيث يقول محمد حسن، 43 سنة، مزارع من أهالي القرية، أن سبب تسمية قرية “الزينية” بهذا الاسم يعود لكثرة الأشجار والزروع والذي أعطاها مظهراً جمالياً مليئاً بالزينة، ويُقال أيضاً أن سيدنا أحمد بن أدريس حينما هبط الي البلدة رأى استقبالاً حافلاً من الناس، فقال هذا استقبال “الناس الزينة”، والحقيقة أن بعض سكان القرية يعود نسبهم لأصول عربية جاءت مصر مع الفتح الإسلامي، وجزء آخر من الأخوة الأقباط ممن استطاعوا أن يحافظوا على التراث والعادات واللغة القبطية بالقرية، ويعود الفضل في احتفاظ القرية باللغة المصرية القديمة إلى دور الكنيسة والتي تحرص على تعليم الأجيال المتعاقبة هذه اللغة، حتى امتزجت مفرداتها باللهجة العامية، واعتاد الناس على التحدث بها مع مرور الوقت.

ويقول بشنونة رفعت،52  سنة، من أهالي القرية، ومن رجال الدين المسيحي بها، إن اللغة القبطية هي اللغة المصرية القديمة ولكن مكتوبة بحروف يونانية، وهي الآن لغة تعبدية في الكنائس والأديرة، واللغة المصرية القديمة كانت عبارة عن رسومات فحدث تزاوج بين رسوماتها وبين حروف اللغة اليونانية، ومن هنا تم إنشاء اللغة القبطية، وهناك أكثر من 2000 كلمة من اللغة المصرية القديمة نتحدث بها الآن بلساننا العربي، ومن بين هذه المفردات ما يلي:

  • فلافل: الشيء المصنوع من الفول
  • هيلا هوب: هيا بنا نعمل
  • دوشة: ضوضاء
  • فوطة: قطعة قماش منشفة
  • شبرا: مزرعة أو قرية
  • شُبرا خيت: القرية الشمالية
  • شُبرا مِنِت: القرية الجنوبية
  • أفنوتي: أبنودي
  • وو: آداة تعجبية
  • كين: اهدأ
  • أوبا: أداة تعجبية للدهشة
  • الشنا والرنة: تعبير يقال لمن اشتهر

ويضيف بشنونة أن أهل القرية من مسلمين ومسيحيين يتحدثون باللغة القبطية في حياتهم اليومية بالتوازي مع اللغة العربية. وهذا نتيجة احتفاظ كنيسة الأنبا باخوم في هذه القرية بتقليد راسخ منذ الأزل، وهو إعطاء دروس مرتين في الأسبوع لأبناء القرية لتعلم اللغة القبطية، حيث يتخرجون على ثلاث مراحل تعليمية، وصولاً إلى شهادة البكالوريا القبطية، والبالغون الذين يتقنون اللغة يتطوعون لتعليم الأطفال في الكنيسة في دائرة لم تنته منذ مئات السنين، وهذا هو سر احتفاظ القرية باللغة القبطية وقد ظلت اللغة القبطية بدون أي تحريف رغم وجود مشروع في القرن التاسع عشر لتوحيد اللغة القبطية مع اللغة اليونانية حتى تتحد اللغة القبطية في الكنائس القبطية واليونانية. إلا أن أقباط مصر قاوموا هذا المشروع بسبب الاختلافات بين اللغتين، وأصروا على الحفاظ على لغتهم المصرية الأصلية حتى يمكن توريثها من جيل إلى جيل. والحقيقة أنه لا أحد يعرف على وجه التحديد متى جاءت فكرة إحياء اللغة القبطية على يد رعاة كنيسة الزينية بالأقصر، وهناك قصة تقول إنه في عام 1673 قام الرحالة الأوروبي الأب فانسليب بزيارة صعيد مصر، وعندما وصل أسيوط تعرف على أسقف المدينة الأنبا يونس، ويقول فانسليب: عرّفه الأسقف على رجل قبطي اسمه أثناسيوس ، وهو الرجل الوحيد الذي يعرف لغة بلده – أي القبطية – بلغ الثمانين من عمره وكان أصم.. يصف فانسليب قائلاً: “رأيت الرجل الذي ينزل إلى القبر، ودُفنت اللغة القبطية معه”، لكن هذا لم يكن صحيحاً.  

والجدير بالذكر أن هناك 4 شهادات في اللغة القبطية تقدمها كنيسة الزينية وهي: كامي – ساجي – سنام مودي – والبكالوريا”، والشهادة الأولى هي البداية وتتكون من أرقام وحروف وحركات شفهية وألحان بسيطة. والمرحلة الثانية والثالثة تضم مستوى الكتابة والترجمة والألحان. أما شهادة البكالوريا فهي الشهادة الأخيرة، ويحصل عليها من أنهى كل مراحلها ودروسها القبطية، ليكون مُستعدًا للقراءة والكتابة والتحدث بها، والشهادة الأولى تسمى “كامي” وهي كلمة قبطية تعني مصر باللغة العربية، وتتكون من 40 درسًا وبعض الأدعية والأناشيد، أما “ساجي” فهي تعني بالعربية تحدث وفيها أكثر من جزء، أما سنام مودي فهي تعني الحمد لله.

ويقول نبيل أسطفانوس، خادم كنيسة الأنبا باخوم بقرية الزينية بحري، إن اللغة المصرية القديمة مرت بأربع مراحل على مر العصور، ففي المرحلة الثالثة، تحدث عامة الناس باللغة الديموطيقية، ثم تطورت إلى اللغة القبطية، ومع دخول العرب إلى مصر، بدأ الأقباط يتعلمون اللغة العربية بسبب العمل في المكاتب الحكومية والدواوين، بالإضافة إلى أن هناك عددًا كبيرًا منهم ترك الإسلام، فتعلموا اللغة العربية، من أجل قراءة القرآن، واختفت اللغة القبطية بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكنها ظلت موجودة في الكنائس القبطية.. وفي عهد البابا كارولس الرابع في القرن التاسع عشر، ظهر مشروع لتوحيد الكنيسة القبطية في مصر مع الكنيسة اليونانية، ومن مظاهر التوحيد توحيد النطق، وهذا تسبب في خطأ كبير في نطق اللفظ، حتى بدأ الأقباط يتكلمون اللغة القبطية بالنطق اليوناني الحديث، ومن هنا انتهى النطق القديم دون أن يلاحظ أحد التغيير بين النطق القديم والحديث. لكن هذا لم يحدث في قرية الزينية، فمازالت تحتفظ بأسلوب النطق الأصلي القديم، ولم تقتصر الكنيسة على النطق فقط بل الألحان التي تختلف عن كل الكنائس في مصر.