د. يحيى زكريا: الأصل المصري لم ينقرض وجينات الفراعنة والمصريين الآن واحدة

كتبت: حبيبة إيهاب

ظلت مصر طوال حركة التاريخ أشبه بالبوتقة التي انصهرت فيها الكثير من الشعوب، لهذا يصفها المؤرخون بأنها فعلا أم الدنيا.. ذلك أن أصول المصريين وخرائطهم الجينية تقدم لنا دليلا على العراقة والجذور الضاربة في أعماق التاريخ، كما تؤكد مقولة “إن مصر جاءت أولا ثم جاء التاريخ”، هذا على الرغم من استمرار محاولات التشويه والإساءة للحضارة المصرية وهو ما رأيناه بعد تقديم شركة نتفليكس لفيلم وثائقي عن كليوباترا لم تلتزم فيه بالفرضيات التاريخية المقبولة من مجتمعات باحثي الآثار والتاريخ، من خلال الزعم بأن المصريين القدماء تعود أصولهم للأفارقة، لكن الحقيقة التي تكشف عنها الدراسات والوقائع التاريخية هي أن المصريين الحاليين يمثلون امتدادا طبيعيا وبشريا للمصريين القدماء، هذا ما يؤكده د. يحيى زكريا جاد، أستاذ الوراثة الجزيئية، وعضو اللجنة القومية لمشروع الجينوم البشري والذي يستهدف إعداد خريطة جينية كاملة للمصريين حفاظا على الهوية الوطنية، وذلك بحكم تخصصه كباحث في مجال الوراثة الجزيئية وجينوميات المصريين القدماء والمحدثين (الحاليين).. التفاصيل في الحوار التالي:  

في البداية نريد أن نعرف ما معنى الجينوم البشري؟ وكيف يتم الاعتماد عليه في الدفاع عن هوية الشعوب؟

الجينوم هو كتاب الحياة للكائن الحي، وهو المسئول في الأساس عن تحديد صفات هذا الكائن، واختلافاته عن الكائنات الأخرى. بمعنى إن الخلية الأولية (البويضة الملقحة) تحتوي علي الجينوم (أو الشفرة الوراثية) الذي يحدد طريقة نمو هذه الخلية إلي أن تكون إنسانا أو زرافة أو سمكة قرش مثلا. هذه الاختلافات الجسيمة بين جينومات الثلاث كائنات هي التي تحدد شكل ووظائف جسم هذا الكائن وتميزه عن الكائنات الأخرى. وبالرغم من التنوع الكبير بين الكائنات من أبسطها مثل البكتيريا إلى أعقدها وهو الإنسان، إلا أن تكوين الجينوم مبني علي أربع قواعد فقط، يرمز لهم اختصارا (A, T, C and G) وتختلف جينومات الكائنات المختلفة فقط في تسلسل هذه الحروف الأربعة، ومعرفة الخريطة الجينية للكائن هي ببساطة معرفة التسلسل الكامل لجينوم هذا الكائن، والأهم معرفة مواقع الاختلاف بينه وبين تسلسل جينومات الكائنات الأخرى من ناحية (كالفرق بين جينومي الكلب والبقرة مثلا) ومواقع الاختلاف بين جينومات السلالات المختلفة لهذا الكائن (كالفرق بين جينومات سلالات الكلاب السلوقي والهاسكي واللولو مثلا).

د. يحيى زكريا

ما مقدار التنوع الجيني بين البشر؟ ومنذ متى بدأ وجود الإنسان الحديث على الأرض؟

ظهور الإنسان الحديث (الهومو سابينس) على وجه الأرض حدث منذ زمن قصير جداً (مقدر بثلاثمائة ألف سنة) مقارنة بأنواع الكائنات الأخرى. لذا فإن التنوع الجيني في الجينوم البشري أقل بكثير عن ذلك التنوع الموجود بين الكائنات أو سلالاتها المختلفة لظهورها قبله بكثير على وجه الأرض. ونتج عن هذا العمر القصير للإنسان الحديث أن التنوع الجيني بين أفراده أو مجموعاته العرقية يعتبر ضئيلاً مقارنة بالكائنات الأخرى. وتتضمن الاختلافات الجينومية بين أفراد الإنسان الحديث ومجموعاته العرقية (التي يوجد في كل منها درجة من التجانس الجيني بين أفرادها بحكم التزاوج عبر السنين)، اختلافات لها علاقة بالتفاعل مع البيئة مثل الاستجابة للأدوية والقابلية لبعض الأمراض كالسمنة وارتفاع ضغط الدم مثلا، بالإضافة إلى اختلافات طفيفة لا تؤثر علي وظائف الجسم البشري ولكنها تتيح التعدد الشكلي بين الأفراد في لون الجلد أو العينين أو الشعر أو الطول والقصر وهكذا. ومن الجدير بالذكر أن الاختلافات الجينية بين أفراد مجتمع ما ترتبط بكيفية تزاوجهم. ففي حالات المجتمعات المغلقة علي نفسها جغرافيا (كجزر فيجي أو ساموا أو بولينيزيا الفرنسية والتي تقع في منتصف المحيط الهادي بعيدا عن كل القارات الأخرى) أو منغلقة عقائديا أو اجتماعيا (مثل جماعة الأميش في ولاية بنسلفانيا بأمريكا والتي بدأت بخمس عائلات فقط انعزلوا عن ركب الحضارة الحديثة وكونوا مجتمعا مقفلا يتم التزاوج فيه من أولاد ونسل هذه العائلات الخمس فقط)، وجد أن الاختلافات الجينية بين أفراد هؤلاء المجموعات أقل بكثير من تلك الموجودة في مجتمع مفتوح على العالم منذ قديم الأزل مثل مصر أو شعوب الشرق الأوسط عموما.

ما هو المجموع الجيني لجماعة بشرية أو لشعب ما؟

المجموع الجيني هو مجموع الاختلافات الجينومية لمجموعة بشرية أو شعب ما أو ما يمكن تسميته رمزا الخريطة الجينية أو الجينوم المرجعي لشعب ما. حيث يتم دراسة جينومات كل أفراد هذا الشعب وتدوينها في قاعدة بيانات إذا ما كان ممكنا في حالة الشعوب القليلة العدد مثل دراسات الجينوم القطري أو الإماراتي أو البحريني. ولكن في الشعوب الكبيرة العدد مثل الجزر البريطانية أو تركيا أو مصر، فإنه يتم اختيار عينة عشوائية (بمعايير محددة) ممثلة لهذا الشعب ودراسة جينومات هؤلاء الأفراد واعتبار أن هذا المجموع الجيني يمثل الشعب فعليا.

هل الخريطة الجينية للمصريين الحاليين و القدماء معروفة؟

للأسف الدراسات الجينومية والجينية للمصريين سواء المحدثين أو القدماء قليلة مقارنة بشعوب أخرى كثيرة. وهذا كان دافعا أساسيا لإنشاء المشروع القومي الطموح (مشروع الجينوم المرجعي المصري) والذي تتضمن مرحلته الأولي دراسة عينة ممثلة للشعب المصري تتكون من عشرين ألف مواطن متطوع سليم ظاهريا. ولن يتم معرفة الخريطة الجينية للمصريين المحدثين بصفة محددة إلا بعد اكتمال دراسة تلك العينة.

أما السؤال عن خريطة جينية واحدة للمصريين القدماء فيعتبر سؤالا خاطئاً من الناحية العلمية لأن الفترة التاريخية للمصريين القدماء استغرقت أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وبالتالي تمثيلها من البقايا البشرية أو المومياوات الموجودة لا يمثل الشعب المصري القديم على مدار تاريخه. هذا بالإضافة إلى أن هناك تمثيل أعلى بين الطبقات الملكية أو النبلاء بصفة اكبر من أفراد الشعب العادي لأنهم حظوا بتحنيط أفضل، وبالتالي كانت فرصتهم في الحفاظ علي أجسامهم وقابلية دراستهم بواسطة علماء الآثار والباحثين أكبر.

ما هو الغرض الأساسي من دراسة الخريطة الجينية للمصريين؟

الغرض الأساسي من استكشاف الخريطة الجينية المصرية هو تطوير مجال الخدمة الطبية للمواطنين حيث إنها الأساس العلمي اللازم للموجة الجديدة من أسس الرعاية الصحية والمسماة بالطب الشخصي، حيث يتم تفصيل التشخيص والعلاج للفرد وليس لمجموع المرضى كما كان متبعا في السابق. ومن المهم توضيح أن أهداف مشروع الجينوم المصري لا تتضمن محاولة تصنيف المصريين المحدثين كسلالات. وعلى جانب آخر فإن الحديث عن نقاء العنصر أو الاختلافات الجينية بين المجموعات العرقية فهو حديث لا يستند إلى أساس علمي كبير، لأن الاختلافات بين المجموعات البشرية أقل بكثير مما نتصور. وبالتالي فالحديث عن نقاء العنصر الجيني المصري أو تفرده يعتبر حديثا لا أساس علمي له بالإضافة إلى أنه يتسم بنزعة عنصرية تلوح بملامح موجة اليوجينكس (التطهر الجيني) التي اتسم بها حكم هتلر في القرن الماضي.

هل الزعم بانقراض الأصل المصري صحيح؟

من المعروف تاريخيا أن مصر كانت عاصمة العالم القديم، وقبلة الحضارة فيه، وبالتالي فقد قدمت إليها مجموعات بشرية كثيرة بغرض اللجوء والأمن أو التعلم أو حتى الغزو طمعا في خيرها. وهذا نتج عنه امتزاج روافد جينية بالمجموع الجيني للمصريين على مدار التاريخ، مما جعلها بوتقة انصهار لشعوب العالم القديم (كما يحدث مع أمريكا حاليا في العصر الحديث). ويستدل علي ذلك من بعض الدراسات الجينية المحدودة التي نشرت عن المصريين المحدثين والتي توضح بعد مقارنة الاختلافات الجينية الموجودة بين عدد من شعوب العالم (65 شعب/مجموعة عرقية)، أن مصر تقع في المنتصف تماما وكأنها ممثلة للبشرية الحديثة حيث تم امتزاج الشعب المصري مع كل شعوب العالم القديم تقريبا فيما عدا شعوب شرق آسيا لبعدهم الجغرافي. أما بالنسبة للدراسات الجينية المحدودة عن المصريين الحاليين فقد وجد تجانس بين المجموع الجيني للمصريين القدماء والحاليين. أما بالنسبة للزعم الكاذب بانقراض الأصل المصري، فإنه لا يتم إلا إذا ثبت تاريخياً أنه تمت عملية إحلال كامل لشعب مكان المصريين الموجودين على أرضهم (كما حدث مثلا مع الهنود الحمر أو لبعض الشعوب الأصلية لأمريكا اللاتينية) وهذا لم يحدث إطلاقا.

أما الحديث عن تشابه بعض المصريين الحاليين بالمصريين القدماء سواء في الملامح او في الجينات، فهذا شيء طبيعي ولا يعطيهم أفضلية عن مواطنين آخرين انحدروا من عائلات مصرية تزاوجت مع أخرى من جنسيات مختلفة. ومن المهم أن نعرف أن علم الوراثة ودراسة الجينات لم يوجد للتفاضل واعتناق التميز الجيني لبعض الأفراد أو المجموعات البشرية، فهذه عنصرية واضحة وبغيضة. وحاليا هناك حوار علمي كبير في الأوساط العلمية عن الامتناع عن استعمال مصطلحات توحي بالعنصرية ولو من بعيد في الدوريات العلمية.

ما علاقة مصر بقارتها الأم "أفريقيا"؟

بالنسبة لأصل البشرية الحديثة، فإنه من المستقر علميا أن الإنسان الحديث وجد في الأساس في أفريقيا ثم هاجر منها ليعمر آسيا وأوروبا، وذلك علي مدار موجات هجرة متعددة بين الفترات من مائتين ألف سنة إلى خمسين ألف سنة سبقت. وتوجد ثلاث نظريات علمية تحاول تفسير مسار هذه الهجرة (نظريات الخروج من أفريقيا) وتتضمن النظرية الأكثر قبولا من المجتمع العلمي حاليا أن المسار تم عن طريق المرور على مصر وعبور ممر سيناء إلى آسيا ومنها إلى أوروبا. والنظرية الثانية هي الخروج عن طريق عبور باب المندب إلى شبه الجزيرة العربية. والنظرية الثالثة وهي الأقل قبولا وتتضمن العبور إلى أوروبا عن طريق مضيق جبل طارق. ولم يثبت إلى الآن بصفة قاطعة أيا من هذه النظريات ولا توقيتاتها ولا عددها، كما توجد نظريات أخرى خاصة بفرضية العودة إلى أفريقيا ومساراتها المفترضة أيضا. حيث إن هجرة وتحركات المجموعات البشرية عبر التاريخ القديم بحثا عن المأوى والغذاء كانت كثيرة. ومن الملحوظ أن نشأة الزراعة واستقرار المجموعات البشرية يقدر بأنها حدثت بين 9-12 ألف سنة مضت. ومن هذا يتضح بل ويمكن القول أن البشر المحدثين ينتمون جميعا إلى أفريقيا في الأساس.

وعندما يثار السؤال عن أصل المصريين القدماء الذين كونوا حضارة كبرى على أرض مصر، فإنه يجب وضع السؤال في إطاره الزمني الدقيق. ذلك أنه من غير المعروف بدقة أصل المجموعات البشرية التي بدأت في الاستقرار في وادي النيل منذ أكثر من سبعة آلاف سنة، وهل جاءوا من موقع جغرافي واحد أم من أماكن متعددة. ومن الواضح أن هذه الحضارة عرفنا ملامحها البارزة واستقرارها كدولة مع بداية تدوين التاريخ منذ خمسة آلاف سنة. والمصريون المرسومة معالمهم علي جدران المعابد يختلفوا قليلا في ملامحهم عن أشقائهم من أفريقيا ما تحت الصحراء. ولكن يجب الإشارة هنا الي اننا نتكلم عن الفترة التي بدأت منذ خمسة آلاف سنة فقط.. والخلاصة أننا أبناء هذه الأرض الطيبة التي شهدت حضارة عظيمة على مدار آلاف السنين وقد احتضنت خلالها كل أجناس البشر مما أهلها لأن يُطلق عليها أم الدنيا.